فصل: أسئلة وأجوبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ما هو الهوى أولًا؟. هو من مادة «الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء». ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء. ومرة «هوى» بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعًا وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع.
وهل كل الهوى كذلك؟. لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعًا للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر: وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ.
إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئًا نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما نشرب شيئًا نحبه نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئًا نحبه يكون إحساسًا لطيفًا.
وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى- بالكسر للواو- ولذلك يقال: هُوِىّ الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من الهوى تقصده الآية؟
يقول الحق: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجًا ملخصه «افعل» و«لا تفعل». وهكذا يمكن أن يصير المنهج قَيِّمًا على خواطر النفس.
لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّمًا على خواطر النفس، فلماذا أوجد النفس؟. لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها.
ويقول قائل: ما دام الله قد خلق غريزة الجنس.. فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟ ونقول له: اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج.
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن هناك إطارًا يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.
ويقال في المثل العربي: «آفة الرأي الهوى» فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله، ولم يعدل حكمًا لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وسلم كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلًا له، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله.
ولم يخالف صلى الله عليه وسلم ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى.
وحين قال الحق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43].
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم أمورًا على نفسه، ولم يحرمها على الناس، وهنا يوضح له الحق: لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول. وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع أهله، آثر زيدٌ رسول الله، فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن جعله في مقام الابن، وكان التبني معروفًا عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال: {ادعوهم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله}.
وكلمة {أقسط} تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضًا في دائرة العدل. وعندما يقال: فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولًا لرسول الله، والأكثر قسطًا هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك الأقسط.
إذن فقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}. هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام: إن الله يصوب لمحمد، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟. نقول: وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله.
والحق يقول عن بني إسرائيل: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} إذن فهم فريقان: منهم من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل الرسول.
والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل. أما القتل فهو إزالة لأصل الحياة. والذي يقتل هو الأكثر لددًا.
وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب، أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون. والأبشع هو القتل؛ لأنه إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول. وجاء التكذيب في صيغة الماضي. وجاء في المسألة البشعة بصيغة المضارع.
فالحدث حين يكون بشعًا فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن. وهذا ما يجعل المجتمع يثور عندما تحدث جريمة بشعة، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل المجرم لا ينفعل الناس، بل منهم من يتعاطف مع المجرم. ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من الأذهان صورة قتلهم للرسل، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين قتلوا الرسل، وقد قال علماء العربية: إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار صورة الفعل.
وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنسانًا آخر، فهو لا يجعل القتل حدثًا منسيًا لأنه ماضٍ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة واضحًا؛ لأنه لا يأخذ شيئًا مستورًا بالماضي، بل يأخذ شيئًا واقعًا في الحال. وكأن الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا. ومثال آخر لاستحضار الصورة: نجد الحق يقول لنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} [الحج: 63].
إنه أنزل الماء، لكنه يتبع ذلك: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].
هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي الاستقبال. والحق يقول: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} وكيف يقول الحق: إنهم يقتلون الرسل، والرسل لا تقتل، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول: إن الأنبياء رسل أيضًا بدليل أن الحق قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52].
إن كليهما مرسل، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه، والنبي مرسل كنموذج هداية بمنهج قد سبق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ}: قد تقدَّم الكلامُ [الآية 20 من البقرة] على {كُلَّمَا} مشبَعًا، فأغْنَى عن إعادته، وقال الزمخشريُّ: {كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ} جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ لـ {رُسُلًا}، والراجعٌ محذوفٌ، أي: «رسولٌ منهُمْ»، ثم قال: فإنْ قلتَ: أينَ جوابُ الشرط، فإنَّ قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول: «إنْ أكْرَمْتَ أخِي، أخَاك أكْرَمْتُ»؟ قلتُ: هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}، كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ، ناصَبُوه، وقوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا} جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول: كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟
قال أبو حيان: «وليس {كُلَّمَا} شرطًا، بل «كُلَّ» منصوبٌ على الظرف و«مَا» مصدريةٌ ظرفيةٌ، ولم يجزم العربُ بـ «كُلّمَا» أصلًا، ومع تسليم أن «كُلَّمَا» شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ بـ {رَسُول} الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو: «لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ» أي: جنس النجوم، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه».
وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه، وأما غيرُه، فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ «كُلَّمَا» شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في «كُلَّمَا» تقول: «كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ»، قال شهاب الدين: هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطًا، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ، فإنه قال: «وَكَذَّبُوا» جواب {كُلَّمَا} و{فَرِيقًا} مفعول بـ {كَذَّبُوا}، و{فَرِيقًا} منصوب بـ {يَقْتُلُونَ}، وإنما قدَّمَ مفعول {يَقْتُلُونَ} لتواخي رؤوس الآي، وقدَّم مفعولَ {كَذَّبُوا} مناسبةً لما بعده.
قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضيًا، وبالآخر مضارعًا؟ قلتُ: جِيء بـ {يَقْتُلُونَ} على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعًا للقتلِ، واستحضارًا لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها».
انتهى، وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضًا، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعًا لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ، وأيضًا؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعًا ناسب رؤوس الآي. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.السؤال الأول: أين جواب الشرط؟ فإن قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} لا يصلح أن يكون جوابًا لهذا الشرط، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين.

والجواب: أن جواب الشرط محذوف، وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه، والتقدير: كلما جاءهم رسول ناصبوه، ثم إنه قيل: فكيف ناصبوه؟ فقيل: فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون.
وقوله: الرسول الواحد لا يكون فريقين.
فنقول: إن قوله: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ} يدل على كثرة الرسل، فلا جرم جعلهم فريقين.